البداية: شغف قديم بالتاريخ
منذ نعومة أظافري، كنت دائماً أميل إلى قراءة الكتب التاريخية والغوص في أحداث الماضي. كنت أجد في قصص الحضارات القديمة والأمم السالفة مغامرات شيقة تتجاوز حدود الزمن. كان التاريخ بالنسبة لي كنافذة أستطيع من خلالها رؤية عوالم أخرى، مليئة بالأحداث والشخصيات التي تركت بصماتها على مر العصور.
أذكر أن أول كتاب تاريخي قرأته كان عن الحضارة المصرية القديمة. كان هذا الكتاب بمثابة الشرارة التي أشعلت شغفي بالتاريخ. بدأت أبحث عن المزيد من الكتب والمقالات التي تتناول الفترات التاريخية المختلفة. قرأت عن حضارات وادي الرافدين، والإمبراطورية الرومانية، والعصور الوسطى، والنهضة الأوروبية، وغيرها الكثير. كان لكل فترة تاريخية سحرها الخاص الذي يجذبني ويحفزني للتعمق أكثر.
لم يكن شغفي بالتاريخ مجرد هواية عابرة، بل كان وسيلة لفهم تطور الإنسان والمجتمعات عبر العصور. كنت أبحث عن الإجابات في الأحداث التاريخية، وأحاول ربطها بالواقع الحالي. هذا الشغف بالتاريخ لم يكن مقتصراً على القراءة فقط، بل كان يمتد إلى مشاهدة الأفلام الوثائقية وزيارة المتاحف والمعارض التاريخية.
على الرغم من أن هذا الشغف كان في البداية لمتعة شخصية، إلا أنه كان له دور كبير في تشكيل شخصيتي وتفكيري. لم أكن أتوقع أن يتحول يوماً هذا الاهتمام بالتاريخ إلى رسالة توعوية. فمع مرور الوقت، أدركت أنني أمتلك القدرة على نقل هذه المعرفة للآخرين، والمساهمة في زيادة الوعي بالتاريخ وأهميته. كانت هذه البداية، نقطة الانطلاق لرحلة مليئة بالتحديات والطموحات.
خرجة ماكرون: نقطة تحول
في خضم الأحداث السياسية المتلاحقة، جاءت تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حول الجزائر لتشكل نقطة تحول كبيرة في حياتي. عندما شكك ماكرون في وجود الأمة والهوية الجزائرية، شعرت بصدمة عميقة. لم يكن هذا التشكيك مجرد كلام عابر، بل كان تحديًا مباشرًا لجذورنا التاريخية وكرامتنا الوطنية. هذا الهجوم اللفظي أثار في داخلي مشاعر مختلطة من الغضب والحزن، ولكنه في الوقت نفسه أشعل فيّ شعلة التحدي والإصرار.
بدأت أرى في تصريحات ماكرون دافعًا قويًا لتحويل شغفي بالتاريخ إلى رسالة توعوية. أدركت أن الرد الأنسب ليس في الدخول في جدالات سياسية غير مجدية، بل في رفع وعي الشباب الجزائري بتاريخهم الغني والمتنوع. كانت هذه التصريحات بمثابة جرس إنذار أيقظ فيّ الرغبة في استخدام معرفتي وشغفي بالتاريخ كأداة لبناء الوعي الوطني وتعزيز الهوية الجزائرية.
قررت استثمار وقتي وجهدي في إعداد محتوى تعليمي وتوعوي يستهدف الشباب، مستخدمًا الوسائل الرقمية الحديثة للوصول إلى أكبر عدد ممكن من الناس. بدأت بنشر مقالات وفيديوهات توثق تاريخ الجزائر، من الحقبة النوميدية إلى الثورة التحريرية، مرورًا بفترات الاستعمار والمقاومة. كان هدفي الرئيسي هو تقديم صورة متكاملة وشاملة لتاريخنا، تعكس قوة وصلابة الأمة الجزائرية.
لم تكن تصريحات ماكرون سوى بداية لرحلتي الجديدة. إنها اللحظة التي أدركت فيها أن شغفي بالتاريخ يمكن أن يكون له تأثير أكبر إذا ما استُخدم كوسيلة لرفع الوعي وتعزيز الهوية. وبينما كنت أعمل على هذه الرسالة، شعرت بأنني أساهم في بناء جيل واعٍ ومعتز بتاريخه وهويته، قادر على مواجهة التحديات والافتراءات بثقة وإيمان.
دور الجامعات وأساتذة التاريخ
تشهد الجامعات الجزائرية حضوراً لافتاً لأساتذة التاريخ والدكاترة الذين يمتلكون معرفة عميقة في مجالهم. ومع ذلك، يلاحظ العديد من المراقبين أن هذه المعرفة الواسعة لا تترجم بشكل كافٍ إلى جهود توعوية تستهدف الشباب. إن الدور التعليمي والتوعوي لأساتذة التاريخ يمكن أن يكون له تأثير كبير في بناء الوعي الثقافي والتاريخي لدى الأجيال الجديدة، وهو ما يبدو غائباً في الكثير من الأحيان.
أحد الأسباب المحتملة لعدم تفاعل أساتذة التاريخ بالشكل المطلوب قد يعود إلى التركيز الكبير على الأبحاث الأكاديمية والنشر العلمي، مما يترك لهم وقتاً محدوداً لمشاركة معرفتهم خارج جدران الجامعة. بالإضافة إلى ذلك، قد تواجههم تحديات تتعلق بالبيروقراطية الأكاديمية وعدم توافر الموارد الكافية لتنظيم أنشطة توعوية.
كما أن هناك احتمالات أخرى تتعلق بثقافة المجتمع الأكاديمي نفسها، حيث قد يُعتبر النشاط التوعوي خارج إطار التدريس الرسمي أقل أهمية أو اعتباراً. هذا التوجه يمكن أن يحد من المبادرات التي يمكن أن تطلقها الجامعات وأساتذة التاريخ لإشراك الشباب في فهم أعمق لماضيهم وتاريخهم.
بالرغم من هذه التحديات، فإن الإمكانيات الكبيرة لدور أساتذة التاريخ في توعية الشباب لا تزال قائمة. من خلال تنظيم محاضرات عامة، وورش عمل، وجولات ميدانية، يمكن للأساتذة أن يسهموا بشكل فعال في تعزيز الوعي التاريخي والثقافي. يمكنهم أيضاً استخدام وسائل التواصل الاجتماعي ومنصات التعليم الإلكتروني للوصول إلى جمهور أوسع من الشباب.
غياب هذا الدور الواضح كان دافعاً لي لأخذ زمام المبادرة. فقد شعرت بأن هناك فجوة كبيرة تحتاج إلى ملء، وأن الأجيال الجديدة بحاجة ماسة إلى فهم أعمق لتاريخهم وتراثهم. من هذا المنطلق، بدأت رحلتي في تحويل شغفي بالتاريخ إلى رسالة توعوية تهدف إلى إحداث تغيير إيجابي في المجتمع.
تحويل الشغف إلى رسالة: قناة اليوتيوب
إن تحويل شغفي بالتاريخ إلى رسالة توعوية كان قرارًا محوريًا في حياتي. بدأت هذه الرحلة بإنشاء قناة على اليوتيوب، حيث قررت تحويل قراءاتي التاريخية إلى كبسولات معرفية قصيرة ومؤثرة. كانت الخطوة الأولى هي تحديد الفئة المستهدفة، ووجدت أن الشباب هم الفئة الأكثر احتياجًا لمثل هذا المحتوى، نظرًا لتعرضهم للعديد من الأفكار المغلوطة حول التاريخ.
بعد تحديد الفئة المستهدفة، قمت بتخطيط المحتوى بعناية. ركزت على تقديم معلومات تاريخية موثوقة بطريقة مشوقة وسهلة الفهم. كان من الضروري أن تكون الفيديوهات قصيرة ومركزة، بحيث يمكن للمشاهدين استيعاب المعلومات بسهولة دون الشعور بالملل. استخدمت تقنيات متنوعة لجذب الانتباه، مثل الرسوم البيانية والصور التاريخية، بالإضافة إلى السرد القصصي الذي يجعل من التاريخ مادة حية.
من خلال هذه الكبسولات المعرفية، كنت أهدف إلى رفع مستوى الوعي التاريخي لدى الشباب، وتحدي الأفكار المغلوطة والمتحيزة. وجدت أن الكثير من الشباب يعتمدون على مصادر غير موثوقة، مما يؤدي إلى انتشار معلومات غير دقيقة. لذا، كان من المهم أن أقدم لهم بديلاً موثوقًا يمكنهم الاعتماد عليه.
واجهت العديد من التحديات أثناء هذه الرحلة. كان من أبرزها التنافس مع المحتويات الأخرى على منصة اليوتيوب، بالإضافة إلى الصعوبات التقنية في إنتاج الفيديوهات بجودة عالية. لكن بفضل الإصرار والتعلم المستمر، تمكنت من تخطي هذه العقبات وتحقيق نجاحات ملموسة. تمكنت القناة من جذب عدد كبير من المشتركين، وتلقت الفيديوهات تعليقات إيجابية تشجعني على الاستمرار في هذا الطريق.
من خلال هذه القناة، لم أكن فقط أنشر معلومات تاريخية، بل كنت أساهم في بناء وعي نقدي لدى الشباب، مما يساعدهم على التفكير بشكل أعمق وفهم الأحداث التاريخية بمنظور أكثر شمولية وعمق.